سورة النساء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{يا أَيُّهَا الناس} خطابٌ يعمُّ حكمُه جميعَ المكلفين عند النزولِ ومَنْ سينتظِمُ في سلكهم من الموجودين حينئذٍ والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامةِ عند انتظامِهم فيه لكنْ لا بطريق الحقيقةِ فإن خطابَ المشافهةِ لا يتناول القاصرين عن درجة التكليفِ إلا عند الحنابلةِ بل إما بطريق تغليبِ الفريقِ الأولِ على الأخيرين وإما بطريق تعميمِ حُكمِه لهما بدليل خارجيَ فإن الإجماعَ منعقدٌ على أن آخِرَ الأمةِ مكلفٌ بما كُلّف به أولُها كما ينبىء عنه قولُه عليه السلام: «الحلالُ ما جرى على لساني إلى يوم القيامةِ والحرامُ ما جرى على لساني إلى يوم القيامة» وقد فُصل في موضعه وأما الأممُ الدارجةُ قبل النزولِ فلا حظَّ لهم في الخطاب لاختصاص الأوامرِ والنواهي بمن يُتصوَّر منه الامتثالُ، وأما اندراجُهم في خطاب ما عداهما مما له دخلٌ في تأكيد التكليفِ وتقويةِ الإيجابِ فستعرِفُ حالَه، ولفظُ النَّاسِ ينتظمُ الذكورَ والإناثَ حقيقةً، وأما صيغةُ جمعِ المذكرِ في قوله تعالى: {اتقوا رَبَّكُمُ} فواردةٌ على طريقة التغليب لعدم تناولِها حقيقةً للإناث عند غيرِ الحنابلة، وأما إدخالهن في الأمر بالتقوى بما ذُكر من الدليل الخارجيِّ وإن كان فيه مراعاةُ جانبِ الصيغةِ لكنه يستدعي تخصيصَ لفظِ النَّاسِ ببعض أفرادِه. والمأمورُ به إما مطلقُ التقوى التي هي التجنبُ عن كل ما يؤثِمُ من فعلٍ أو تركٍ وإما التقوى فيما يتعلق بحقوق أبناءِ الجنسِ أي اتقوه في مخالفة أوامره ونواهيه على الإطلاق أو في مخالفة تكاليفه الواردةِ هاهنا.
وأيًّا ما كان فالتعرضُ لعنوان الربوبيةِ المنبئةِ عن المالكية والتربيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به على طريقة الترغيبِ والترهيبِ، وكذا وصفُ الرب بقوله تعالى: {الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} فإن خلْقَه تعالى إياهم على هذا النمطِ البديعِ لإنبائه عن قدرة شاملةٍ لجميع المقدوراتِ التي من جُملتها عقابُهم على معاصيهم وعن نعمة كاملةٍ لأقدارها من أقوى الدواعي إلى الاتقاء من موجبات نقمتهِ وأتمِّ الزواجرِ عن كُفران نعمته، وكذا جعلُه تعالى إياهم صِنواناً مُفرَّعةً من أرومةٍ واحدة هي نفسُ آدمَ عليه السلام من موجبات الاحترازِ عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوةِ. وتعميمُ الخطابِ في ربّكم وخلقَكم للأمم السالفة أيضاً مع اختصاصه فيما قبلُ بالمأمورين بناءً على أن تذكيرَ شمولِ ربوبيته تعالى وخلقِه للكل من مؤكِّدات الأمرِ بالتقوى وموجباتِ الامتثالِ به تفكيك للنظم الكريمِ مع الاستغناء عنه، لأن خلقَه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه السلام حيث كان بواسطة ما بينهم وبينه عليه السلام من الآباء والأمهاتِ كان التعرّضُ لخلقهم متضمِّناً للتعرّض لخلق الوسايطِ جميعاً، وكذا التعرضُ لربوبيته تعالى لهم متضمِّنٌ للتعرض لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبةً لا سيما وقد نطقَ بذلك قوله عز وجل: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فإنه مع ما عُطف عليه صريحٌ في ذلك وهو معطوفٌ إما على مقدر ينبىءُ عنه سَوقُ الكلامِ لأن تفريغَ الفروعِ من أصل واحد يستدعي إنشاءَ ذلك الأصلِ لا محالة، كأنه قيل خلقكم من نفس واحدةٍ خلقها أولاً وخلق منها زوجَها إلخ وهو استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير وَحدةِ المبدأ وبيانِ كيفيةِ خلْقِهم منه وتفصيلِ ما أُجمل أولاً، أو صفةٌ لنفسٍ مفيدةٌ لذلك، وإما على خلقَكم داخلٌ معه في حيز الصلةِ مقررٌ ومبينٌ لما ذكر، وإعادةُ الفعلِ مع جواز عطفِ مفعوله على مفعول الفعلِ الأول كما في قوله تعالى: {ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} إلخ لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت، فإن الأولَ بطريق التفريعِ من الأصل والثاني بطريق الإنشاءِ من المادة، فإنه تعالى خلقَ حواءَ من ضِلْعِ آدمَ عليه السلام.
روي أنه عز وجل لما خلقه عليه السلام وأسكنه الجنة ألقى عليه النومَ فبينما هو بين النائمِ واليقظانِ خَلَق حواءَ من ضِلْع من أضلاعه اليسرى فلما انتبه وجدها عنده، وتأخيرُ ذكرِ خلقِها عن ذكر خلقِهم لما أن تذكيرَ خلقهم أدخلُ في تحقيق ما هو المقصودُ من حملهم على الامتثال بالأمر بالتقوى من تذكير خلقها، وتقديمُ الجار والمجرور للاعتناء ببيان مبدئيتهِ عليه السلام لها مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر كما مر مراراً، وإيرادُها بعنوان الزوجيةِ تمهيدٌ لما بعده من التناسل.
{وَبَثَّ مِنْهُمَا} أي نشرَ من تلك النفس وزوجها المخلوقةِ منها بطريقِ التوالدِ والتناسلِ {رِجَالاً كَثِيراً} نعتٌ لرجالاً مؤكّدٌ لما أفادَهُ التنكيرُ من الكثرةِ والإفرادِ باعتبار معنى الجمع أو العددِ وقيلَ هو نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ للفعل أي بثاً كثيراً {وَنِسَاء} أي كثيرة، وتركُ التصريحِ بها للاكتفاء بالوصف المذكورِ، وإيثارُهما على ذكوراً وإناثاً لتأكيد الكثرةِ والمبالغةِ فيها بترشيح كلِّ فردٍ من الأفراد المبثوثةِ لمبدئيّة غيره، وقرئ و{خالقٌ} و{باثٌّ} على حذف المبتدأ أي وهو خالقٌ وباث {واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ} تكريرٌ للأمر وتذكيرٌ ببعض آخَرَ من موجبات الامتثالِ به فإن سؤالَ بعضِهم بعضاً بالله تعالى بأن يقولوا أسألُك بالله وأنشُدك اللَّهَ على سبيل الاستعطافِ يقتضي الاتقاءَ من مخالفة أوامرِه ونواهيه، وتعليقُ الاتقاءِ بالاسمِ الجليلِ لمزيد التأكيدِ والمبالغةِ في الحمل على الامتثال بتربية المهابةِ وإدخالِ الروعةِ، ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته وتساءلون أصلُه تتساءلون فطُرحت إحدى التاءين تخفيفاً، وقرئ بإدغام تاءِ التفاعلِ في السين لتقاربهما في الهمس وقرئ {تَسْألون} من الثلاثي أي تسألون به غيرَكم، وقد فسِّر به القراءةُ الأولى والثانية، وحملُ صيغةِ التفاعلِ على اعتبار الجمعِ كما في قولك رأيت الهلال وتراءياه وبه فسر عم يتساءلون على وجه وقرئ {تَسَلون} بنقل حركةِ الهمزةِ إلى السين.
{والارحام} بالنصب عطفاً على محل الجارِّ والمجرور كقولك مررتُ بزيد وعمراً وينصره قراءةُ تساءلون به وبالأرحام فإنهم كانوا يقرُنونها في السؤال والمناشدةِ بالله عز وجل، ويقولون أسألك بالله وبالرَّحمِ، أو عطفاً على الاسم الجليلِ أي اتقوا اللَّهَ والأرحامَ وصِلوها ولا تقطعوها فإن قطعيتها مما يجب أن يُتقّى وهو قولُ مجاهدٍ وقتادة والسدي والضحاك والفراءِ والزجاج، وقد جَوّز الواحديُ نصبَه على الإغراء أي والزَموا الأرحامَ وصِلوها وقرئ بالجر عطفاً على الضمير المجرورِ وبالرفع على أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ تقديره: والأرحامُ كذلك أي مما يُتقى أو يُتساءلُ به، وقد نبه سبحانه وتعالى حيث قرنها باسمه الجليلِ على أن صلتَها بمكان منه كما في قوله تعالى: {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا} وعنه عليه السلام: «الرحِمُ معلقةٌ بالعرش تقول: مَنْ وَصَلني وصله اللَّهُ ومَنْ قَطَعني قَطَعَهُ اللَّه» {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أي مراقباً، وهي صيغةٌ من رقَب يرقُب رَقْباً ورُقوباً ورُقباناً إذا أحدّ النظرَ لأمر يريد تحقيقَه، أي حافظاً مطلعاً على جميع ما يصدُر عنك من الأفعال والأقوالِ وعلى ما في ضمائركم من النيات مُريداً لمجازاتكم بذلك، وهو تعليلٌ للأمر ووجوبِ الامتثالِ به، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتأكيده وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لرعاية الفواصل.


{وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} شروعٌ في تفصيل مواردِ الاتقاءِ ومظانّةِ بتكليف ما يقابلها أمراً ونهياً عَقيبَ الأمرِ بنفسِه مرة بعد أخرى، وتقديمُ ما يتعلق باليتامى لإظهار كمالِ العنايةِ بأمرهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخِطابُ للأولياء والأوصياءِ وقلما تُفوَّض الوصايةُ إلى الأجانب، واليتيمُ من مات أبوه، من اليُتم وهو الانفرادُ ومنه الدرةُ اليتيمةُ، وجمعُه على يتامى إما أنه لما جرى مَجرى الأسماءِ جُمع على يتائِمَ ثم قُلب فقيل: يتامى، أو لأنه لما كان من وادي الآفاتِ جُمع على يَتْمى ثم جُمع يَتمى على يتامى، والاشتقاقُ يقتضي صحةَ إطلاقِه على الكبار أيضاً، واختصاصُه بالصغار مبنيٌّ على العُرف، وأما قولُه عليه السلام: «لا يُتمَ بعد الحُلُم»، فتعليمٌ للشريعة لا تعيينٌ لمعنى اللفظِ أي لا يجري على اليتيم بعده حكمُ الأيتام.
والمرادُ بإيتاء أموالِهم قطعُ المخاطَبين أطماعَهم الفارغةَ عنها وكفُّ أكُفِهم الخاطفةِ عن اختزالها، وتركُها على حالها غيرَ مُتعرَّضٍ لها بسوء حتى تأتيَهم وتصلَ إليهم سالمةً كما ينبىء عنه ما بعده عن النهي عن التبدّل والأكلِ لا الإعطاءِ بالفعل فإنه مشروطٌ بالبلوغ وإيناسِ الرُشدِ على ما ينطِق به قوله تعالى: {حتى إِذَا بَلَغُواْ} الآية، وإنما عبّر عما ذُكر بالإيتاء مجازاً للإيذان بأنه ينبغي أن يكونَ مرادُهم بذلك إيصالاً إليهم لا مجردَ تركِ التعرّضِ لها، فالمرادُ بهم إما الصغارُ على ما هو المتبادرُ، والأمرُ خاصٌّ بمن يتولى أمرَهم من الأولياء والأوصياءِ وشمولُ حكمِه لأولياء مَن كان بالغاً عند نزولِ الآيةِ بطريق الدِلالةِ دون العبارة، وأما من جرى عليه اليتمُ في الجملة مجازاً أعمُّ من أن يكون كذلك عند النزولِ، أو بالغاً فالأمرُ شاملٌ لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من حفظ أموالِهم والتحفظِ عن إضاعتها مطلقاً، وأما وجوبُ الدفعِ إلى الكبار فمستفادٌ مما سيأتي من الأمر به، وقيل: المرادُ بهم الصغارُ وبالإيتاء الإعطاءُ في الزمان المستقبلِ، وقيل: أُطلق اسمُهم على الكبار بطريق الاتساعِ لقرب عهدِهم باليتم حثاً للأولياء على المسارعة إلى دفع أموالِهم إليهم أولَ ما بلغوا قبل أن يزولَ عنهم اسمُهم المعهودُ، فالإيتاءُ بمعنى الإعطاءِ بالفعل، ويأباهما ما سيأتي من قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} الخ، فإن ما فيه من الأمر بالدفع واردٌ على وجه التكليفِ الابتدائيِّ لا على وجه تعيينِ وقتِه أو بيانِ شرطِه فقط كما هو مقتضى القولين، وأما تعميمُ الاسمِ للصغار والكبارِ مجازاً بطريق التغليبِ مع تعميم الإيتاءِ للإيتاء حالاً وللإيتاء مآلاً وتعميمِ الخطابِ لأولياء كِلا الفريقين على أن مَنْ بلغ منهم فوليُّه مأمورٌ بالدفع إليه بالفعل وأن من لم يبلُغْ بعدُ فوليُّه مأمورٌ بالدفع إليه عند بلوغِه الرشدَ، فمع ما سبق تكلفٌ لا يخفى، فالأنسبُ ما تقدم من حمل إيتاءِ أموالِهم إليهم على ما يؤدي إليه من ترك التعرضِ لها بسوءٍ كما يلوحُ من التعبير عن الإعطاء بالفعل بالدفع سواءٌ أريد باليتامى الصغارُ أو ما يعمُّ الصغارَ والكبارَ حسبما ذُكر آنفاً.
وأما ما روي من أن رجلاً من غطَفان كان معه مال كثيرٌ لابن أخٍ له فلما بلغ طلب منه مالَه فمنعه فنزلت فلما سمِعها قال: أطعنا الله وأطعنا الرسولَ نعوذ بالله من الحُوب الكبير، فغيرُ قادحٍ في ذلك لما أن العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوص السببِ. {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} نهيٌ عن أخذ مالِ اليتيمِ على الوجه المخصوصِ بعد النهي الضِّمني عن أخذه على الإطلاق. وتبدلُ الشيء بالشيء واستبدالُه به أخذُ الأول بدلَ الثاني بعد أن كان حاصلاً له أو في شرف الحصولِ يُستعملان أبداً بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالياء كما في قوله تعالى: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان} الخ، وقوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ} وأما التبديلُ فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى: {وبدلناهم بجناتهم جَنَّتَيْنِ} الخ، وأخرى بالعكس كم في قولك: بدّلت الحلقةَ بالخاتم إذا أذبتَها وجعلتَها خاتماً نص عليه الأزهري، وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما في قوله تعالى: {يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} والمرادُ بالخبيث والطيبِ إن كان هو الحرامُ والحلالُ فالمنهيُّ عنه استبدالُ مالِ اليتيمِ بمال أنفسِهم مطلقاً كما قال الفراءُ والزجاجُ، وقيل: معناه لا تذَروا أموالَكم الحلالَ وتأكُلوا الحرامَ من أموالهم فالمنهيُّ عنه أكلُ مالِه مكانَ مالِهم المحقّقِ أو المقدّرِ، وقيل: هو اختزالُ مالِه مكان حفظِه، وأياً ما كان فإنما عبّر عنهما بهما تنفيراً عما أخذوه وترغيباً فيما أُعْطوُه وتصويراً لمعاملتهم بصورة ما لا يصدُر عن العاقل، وإن كان هو الرديءُ والجيدُ فموردُ النهي ما كانوا عليه من أخذ الجيّدِ من مال اليتيمِ وإعطاءِ الرديءِ من مال أنفسِهم وبه قال سعيدُ بنُ المسيِّب والنخعيُّ والزُّهري والسدي، وتخصيصُ هذه المعاملةِ بالنهي لخروجها مَخرجَ العادةِ لا لإباحة ما عداها، وأما التعبيرُ عنها بتبدُّل الخبيثِ بالطيب مع أنها تبديلُه به أو تبدلُ الطيبِ بالخبيث فللإيذان بأن الأولياءَ حقُّهم أن يكونوا في المعاوضات عاملين لليتيم لا لأنفسهم مُراعين لجانبه قاصدين لجلب المجلوبِ إليه مشترىً كان أو ثمناً لا لسَلَب المسلوبِ عنه {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} نهيٌ عن منكر آخرَ كانوا يتعاطَوْنه أي لا تأكلوها مضمومةً إلى أموالكم ولا تُسوّوا بينهما وهذا حلالٌ وذاك حرامٌ وقد خُصَّ من ذلك مقدارُ أجرِ المِثلِ عند كونِ الولي فقيراً {إِنَّهُ} أي الأكلُ المفهومُ من النهي {كَانَ حُوباً} أي ذنباً عظيماً، وقرئ بفتح الحاء وهو مصدرُ حاب حَوْباً وقرئ {حاباً} وهو أيضاً مصدرٌ كقال قولاً وقالا: {كَبِيراً} مبالغةٌ في بيان عِظَمِ ذنبِ الأكلِ المذكورِ كأنه قيل: من كبار الذنوبِالعظيمةِ لا من أفنائها.


{وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى} الإقساطُ العدلُ وقرئ بفتح التاء فقيل: هو مِنْ قَسَط أي جار ولا مزيدةٌ كما في قوله تعالى: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ} وقيل: هو بمعنى أقسطَ فإن الزجاجَ حَكى أن قسَط يُستعمل استعمالَ أقسطَ، والمرادُ بالخوف العلمُ كما في قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا} عبّر عنه بذلك إيذاناً بكون المعلومِ مَخوفاً محذوراً لا معناه الحقيقي لأن الذي عُلّق به الجوابُ هو العلمُ بوقوع الجَورِ المَخوفِ لا الخوفُ منه وإلا لم يكنِ الأمرُ شاملاً لمن يُصِرُّ على الجور ولا يخافه، وهذا شروعٌ في النهي عن منكر آخَرَ كانوا يباشرونه متعلقٌ بأنفس اليتامى أصالةً وبأموالهم تبعاً عَقيبَ النهي عما يتعلق بأموالهم خاصةً، وتأخيرُه عنه لقلة وقوعِ المنهيِّ عنه بالنسبة إلى الأول ونزولِه منه بمنزلة المركّبِ من الفرد وذلك أنهم كانوا يتزوّجون من تحِلُّ لهم من اليتامى اللاتي يلُونهنّ لكن لا لرغبة فيهن بل في مالهن ويُسيئون في الصحبة والمعاشرةِ ويتربّصون بهن أن يمُتْنَ فيرِثوهن، وهذا قولُ الحسنِ وقيل: هي اليتيمةُ التي تكونُ في حِجْر وليِّها فيرغب في مالها وجمالِها ويريد أن ينكِحَها بأدنى مِنْ مَهر نسائِها فنُهوا أن ينكِحوهن إلا أن يُقسِطوا لهن في إكمال الصَّداقِ، وأُمروا أن ينكِحوا ما سواهن من النساء، وهذا قولُ الزهري روايةً عن عروةَ عن عائشة رضي الله عنها، وأما اعتبارُ اجتماعِ عددِ كثيرٍ منهن كما أطبق عليه أكثرُ أهلِ التفسيرِ حيث قالوا: كان الرجلُ يجد اليتيمةَ لها مالٌ وجمالٌ ويكون وليَّها فيتزوجها ضَناً بها عن غيره فربما اجتمعت عنده عشرٌ منهن إلخ فلا يساعده الأمرُ بنكاح غيرِهن فإن المحذورَ حينئذ يندفع بتقليل عددِهن، أي وإن خفتم أن لا تعدِلوا في حق اليتامى إذا تزوجتم بهن بإساءة العِشرةِ أو بنقصِ الصَّداق {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} {مَا} موصولةٌ أو موصوفةٌ، ما بعدها صلتُها أو صفتُها أُوثِرَت على مَنْ ذهاباً إلى الوصف وإيذاناً بأنه المقصودُ بالذات والغالبُ في الاعتبار لا بناءً على أن الإناثَ من العقلاء يجرين مَجرى غيرِ العقلاءِ لإخلاله بمقام الترغيبِ فيهن، وقرأ ابنُ أبي عَبْلةَ: {من طاب}. و{مِنْ} في قوله تعالى: {مّنَ النساء} بيانيةٌ وقيل: تبعيضيةٌ والمرادُ بهن غيرُ اليتامى بشهادة قرينةِ المقامِ أي فانكِحوا مَن استطابَتْهن نفوسُكم من الأجنبيات، وفي إيثار الأمرِ بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصودُ بالذات مزيدُ لطفٍ في استنزالهم عن ذلك، فإن النفسَ مجبولةٌ على الحِرص على ما مُنِعت منه كما أن وصفَ النساءِ بالطيب على الوجه الذي أشير إليه فيه مبالغةٌ في الاستمالة إليهن والترغيبِ فيهن، وكلُّ ذلك للاعتناء بصَرْفهم عن نكاح اليتامى، وهو السرُّ في توجيه النهي الضمنيِّ إلى النكاح المُتَرقَّبِ مع أن سببَ النزولِ هو النكاحُ المحققُ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشرِّ قبل وقوعِه فرب واقعٍ لا يُرفع، والمبالغةِ في بيان حالِ النكاحِ المحققِ فإن محظوريةَ المترقَّبِ حيث كانت للجَور المترقَّبِ فيه فمحظوريةُ المحقِّقِ مع تحقق الجَوْر فيه أولى، وقيل: المرادُ بالطيب الحِلُّ أي ما حل لكم شرعاً لأن ما استطابوه شاملٌ للمحرمات، ولا مخصصَ له بمن عداهن وفيه فِرارٌ من محذور ووقوعٍ فيما هو أفظعُ منه لأن ما حل لهم مُجملٌ، وقد تقرر أن النصَّ إذا تردد بين الإجمالِ والتخصيصِ يُحمل على الثاني لأن العامَّ المخصوصَ حجةٌ في غير محلّ التخصيصِ والمُجملُ ليس بحجة قبل ورودِ البيانِ أصلاً، ولئن جُعل قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ} الخ، دالاً على التفصيل بناءً على ادعاء تقدّمِه في التنزيل فلْيُجْعل دالاً على التخصيص {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} معدولةٌ عن أعداد مكررةٍ غيرُ منصرفةٍ لما فيها من العدْلين: عدلِها عن صِيَغها وعدلِها عن تكرُّرِها، وقيل: للعدل والصفةِ، فإنها بُنيت صفاتٍ وإن لم تكن أصولُها كذلك. وقرئ {وثُلَثَ} {ورُبَعَ} على القصر من ثلاثَ ورُباعَ ومحلُّهن النصبُ على أنها حالٌ من فاعل طاب مؤكدةٌ لما أفاده وصفُ الطيّبِ من الترغيب فيهن والاستمالةِ إليهن بتوسيع دائرةِ الإذْنِ، أي فانكِحوا الطيباتِ لكم معدوداتٍ هذا العددَ ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً حسبما تريدون على معنى أن لكل واحدٍ منهم أن يختار أيَّ عددٍ شاء من الأعداد المذكورةِ لاأن بعضَها لبعض منهم وبعضَها لبعض آخرَ كما في قولك: اقتسِموا هذه البَدْرةَ درهمينِ درهمينِ وثلاثةً ثلاثةً وأربعةً أربعة، ولو أُفردت لفُهم منه تجويزُ الجمعِ بين تلك الأعدادِ دون التوزيعِ، ولو ذكرت بكلمة أو لفات تجويزُ الاختلافِ في العدد، هذا وقد قيل في تفسير الآيةِ الكريمةِ لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالِهم من الحُوب الكبيرِ: أخذ الأولياءُ يتحرّجون من ولايتهم خوفاً من لُحوق الحُوب بترك الإقساطِ مع أنهم كانوا لا يتحرّجون من ترك العدلِ في حقوق النساءِ حيث كان تحت الرجلِ منهم عشرٌ منهن فقيل لهم: إن خفتم تركَ العدلِ في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها فخافوا أيضاً تركَ العدلِ بين النساءِ فقلِّلوا عددَ المنكوحاتِ لأن من تحرّج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكبٌ مثلَه فهو غيرُ متحرِّجٍ ولا تائبٍ عنه وقيل: كانوا لا يتحرجون من الزنى وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى، فقيل: إن خفتم الجَوْرَ في حق اليتامى فخافوا الزنى فانكِحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حولَ المحرَّماتِ، ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالةُ النظمِ الكريمِ لبنائهما على تقدّم نزولِ الآيةِ الأولى وشيوعِها بين الناسِ مع ظهور توقفِ حُكمِها على ما بعدها من قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم}
إلى قوله تعالى: {وكفى بالله حَسِيباً} {فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تَعْدِلُواْ} أي فيما بينهن ولو في أقل الأعدادِ المذكورةِ كما خِفتُموه في حق اليتامى أو كما لم تعدِلوا في حقهن أو كما لم تعدِلوا فيما فوق هذه الأعدادِ {فواحدة} أي فالزَموا أو فاختاروا واحدةً وذروا الجمعَ بالكلية، وقرئ بالرفع أي فالمُقنِعُ واحدةٌ أو فحسبُكم واحدةٌ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} أي من السراري بالغةً ما بلغت من مراتب العددِ وهو عطفٌ على واحدةً على أن اللزومَ والاختيارَ فيه بطريق التسرِّي لا بطريق النكاحِ كما فيما عُطف عليه لاستلزامه ورودَ ملكِ النكاحِ على ملك اليمينِ بموجب اتحادِ المخاطَبين في الموضعين بخلاف ما سيأتي من قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} فإن المأمورَ بالنكاح هناك غيرُ المخاطَبين بملك اليمين وإنما سُوِّي في السهولة واليُسرِ بين الحرةِ الواحدةِ وبين السراري من غير حصرٍ في عددٍ لقلةِ تَبِعتِهن وخِفةِ مؤنتِهن وعدمِ وجوبِ القَسْمِ بينهن. وقرئ {أَوْ ما مَلَكَتْ أيمانكم} وما في القراءة المشهورةِ للإيذان بقصور رتبتِهن عن رتبة العقلاءِ {ذلك} إشارةٌ إلى اختيار الواحدةِ والتسرّي {أدنى أَن لا تَعُولُواْ} العَول الميلُ من قولهم: عال الميزانُ عَوْلاً إذا مال، وعال في الحكم أي جار، والمرادُ هنا الميلُ المحظورُ المقابلُ للعدل أي ما ذُكر من اختيار الواحدةِ والتسرّي أقربُ بالنسبة إلى ما عداهما من أن لا تميلوا ميلاً محظوراً لانتفائه رأساً بانتفاء محلِّه في الأول وانتفاءِ خطرِه في الثاني بخلاف اختيارِ العددِ في المهائر فإن الميلَ المحظورَ متوقَّعٌ فيه لتحقق المحلِّ والخطرِ، ومن هاهنا تبين أن مدارَ الأمرِ هو عدمُ العولِ لا تحققُ العدلِ كما قيل، وقد فُسِّر بأن لا يكثُر عيالُكم على أنه من عال الرجلُ عيالَه يعولُهم أي مانَهم، فعبر عن كثرة العيالِ بكثرة المَؤُونةِ على طريقة الكتابةِ ويؤيده قراءةُ أن تُعيلوا من أعال الرجلُ إذا كثُر عيالُه، ووجهُ كونِ التسري مَظِنَّةَ قلةِ العِيالِ مع جواز الاستكثارِ من السراري أنه يجوز العزلُ عنهن بغير رضاهن ولا كذلك المهائرُ، والجملةُ مستأنفةٌ جارية مما قبلها مَجرى التعليلِ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8